هل الخيانة معطى بيولوجي أم هي نتيجة حضارية


\
من علامات تطور المجتمعات، وجود علاقات إنسانية صحية تضمن الاحترام لكل أطرافها. ومن أعقد العلاقات الإنسانية، العلاقة بي...
أميرة بدر الدين حجلاوي


من علامات تطور المجتمعات، وجود علاقات إنسانية صحية تضمن الاحترام لكل أطرافها. ومن أعقد العلاقات الإنسانية، العلاقة بين المرأة والرجل. لذلك من المهم جدا أن تخضع هذه العلاقة إلى مجموعة من القوانين أو الأعراف التي تضمن التوازن والتكافؤ. لكن للأسف ليس هذا حال البشرية في الوقت الراهن، فنحن نشهد عصرا تسود فيه علاقات عاطفية مسمومة وعدائية. ولأننا نعي حجم الضرر النفسي لمثل هذا الواقع، فإن البحث عن اسبابه مهم. هذه الأسباب يمكن حتى تنزيلها على كل المجتمعات لأن نفس الظاهرة تفسرها نفس الأسباب.

لا يجب أن نتخيل أبدا أن كل العلاقات العاطفية تتنزل حتما في الإطار الكلاسيكي ثنائي الجندر. وأن مثال العلاقة الناجحة هي علاقة توافق تجمع بين رجل وامرأة. إذ يختلف الناس وتختلف ميولاتهم وحاجتهم   النفسية والجسدية حسب هويتهم الجنسية.  رغم أن العرف السائد يميل إلى إقصاء بقية أشكال العلاقات فإن ميدان بحث جديد أكد وجود أشكال ارتباط أخرى. هنا يجب التفريق بين النوع الجندري (نظرة الشخص إلى جنسه) والجنس البيولوجي (ما يحمله جسمه من خصائص) وهذا ما أدى إلى ظهور مجموعات قوبلت بالرفض من كل الشعوب. ونظرا لأهمية الجدل الذي أحدثته نتائج بحوث هذا الميدان، نتأكد مرة أخرى على أن العلاقات العاطفية هي قضية إنسانية. فكيف يجرم ويحرم المجتمع هذه العلاقات المختلفة عن السائد والحال أن أصحاب هذه العلاقات لا يختارون هذه الميولات بل تولد معهم …. في حين يسمحون بالتسلط الذكوري في العلاقات الكلاسيكية الذي من الممكن تفسير ظهوره بالتطور الطبيعي لكن لا يمكن إنكار سعي الرجل إلى تثبيته.

تطور العلاقة بين الجنسين عبر الزمن

طالما شكلت وستشكل طبيعة العلاقة بين المرأة والرجل قضية تثير الفكر، تسيل الحبر وتملأ الورق. تمثل ظاهرة الخيانة أخطر ما يمكن أن يهز العلاقة. طالما شهد التاريخ كما يشهد الحاضر وقائع خيانة من الطرفين. ورغم أن الرجل لا يحتكر حصرية هذا الفعل، فإن جميع الدراسات تؤكد أن نسبة الخيانة عند الرجل على المستوى العالمي وحتى في المجتمعات الأقل الذكورية، أكثر من نسبتها عند المرأة.(1) لتبقى ذكورية النظام العالمي كله على مستوى البنا التحتية والفوقية السبب الوحيد القادر على تفسير هذا. حتى إن بعضهم يعزو الخيانة إلى أسباب جينية في حين أن الظاهرة تؤصل ثقافيا وتاريخيا حسب تطور البشرية حضاريا.

ضل الاعتقاد السائد إلى حدود القرن 19 أن العائلة قائمة على السيادة الذكورية الأبوية. لكن ذكورية المجتمعات الإنسانية ليست شكل الوجود الوحيد.  قديما قبل بضع الاف السنين كانت المجتمعات أمومية. إذ أن المرأة استطاعت أن تفيد الإنسانية في أولى مراحل تطورها حين ربطت علاقة خاصة مع الطبيعة فكانت أول من حاك جلود الحيوانات وأول من تعرف عن خصائص الأعشاب وخاصة العلاجية منها. وكان للمرأة دور اجتماعي مهم. حتى أن احترام النساء في هذه المجتمعات بلغ حد التقديس والتأليه وكانت المرأة رمز الخصوبة والحياة والجمال تشهد على ذلك ميثولوجيا كل الحضارات.   من الممكن أن نقول إن كفة ميزان العلاقات كانت ترجح لصالح المرأة إلى حدود 3 آلاف سنة قبل الميلاد.

أدلة وجود نوع آخر من المجتمعات تؤكد على أن طبيعة العلاقة بين المرأة والرجل تغيرت عبر الزمن …كما أن مفهوم الارتباط نفسه تطور بتطور البشرية وبتغير مؤسسات المجتمعات. إذن لا يمكن أبدا تبرير فعل الخيانة جينيا، خاصة وأن المجتمعات الأمومية وجدت منذ فترة قريبة. في حين أن التغير البيولوجي يمتد على الاف السنوات كما لا يوجد أي عامل قد يؤثر على جنسانية الرجل (ويكسبه حاجة جنسية أكثر) دون جنسانية المرأة

(2 الفترة الأمومية والتمهيد للسيطرة الذكورية الحالية

. قبل 200 ألف سنة (2) اتخذ الإنسان شكله النهائي في إفريقيا … ثم ظهرت اللغة لتعزز التواصل وتبادل المعلومات والتجارب بين البشر. وقبل 100 ألف سنة بدأ الإنسان بالتحرك. وبين بداية العصر الجليدي (انتشار الإنسان في كل الأرض)، مرورا بنهاية العصر الجليدي (انعدام التواصل بين القارات) ووصولا إلى ظهور أولى الحضارات، كان التفوق الجسدي للرجل يعطيه أفضلية القدرة على الاصطياد.  هنا بدأ تدريجيا ينشأ نوع من الوعي أو الرغبة الغريزية في السيطرة على أماكن الصيد لضمان القوت … وطوال آلاف سنوات الوجود ومع اختلاف أشكال العيش إما في مجموعات كبيرة أو مجموعات أصغر، ومع الترحال المتواصل، ولضمان هذه السيطرة على موارد الغذاء أحس الإنسان بقيمة العدد …أي بأهمية أن يكون ذكور المجموعة كثرا. فقدر الإنسان عملية الولادة أو الخلق وكانت المرأة الوحيدة القادرة حسب وعيه على الإتيان بهذه المعجزة. فكان جهل الرجل بما له من دور في عملية التلقيح هو ما اكسب المرأة هذه الحظوة المتزايدة

وفي حدود 12 ألاف سنة قبل الميلاد بدأ الإنسان في الاستقرار. هنا بدأ العصر الزراعي في إطار مجتمعي يسمى بالمشاعية الأولى حيث تعيش مجموعة من الأفراد تربط بينها علاقة قرابة دموية ويحكمها عرف ذو قواعد بسيطة.. وكانت وسائل الإنتاج بسيطة وبدائية بحيث كان من الضروري تجميع قدرات وكفاءات الكل، العلمية والعملية المحدودة، خدمة لمصلحة الأغلبية. أما علاقات الانتاج فكانت تعتمد على الملكية الجماعية لوسائل الانتاج (أدوات العمل، والأرض، والمساكن والأدوات الزراعية، الخ. اما الملكية الخاصة كانت تقتصر على حيازة الأسلحة والملابس والأواني المنزلية.  فكانت كل موارد العشيرة/ القبيلة وأدواتها على ذمة كل أفرادها. هنا زاد الوعي بأهمية العدد وبضرورة استمرار النسل.

هنا نشأت المجتمعات الأمومية أصبحت للمرأة مكانة أكبر. مع الوقت تزايد عدد الأفراد، وارتفعت القوى المنتجة وحصل فائض في الإنتاج أدى إلى بروز الملكية وظهور الاختلافات الاقتصادية. ومع ظهور العمل العبودي ازدادت الفروق بين الملكية الخاصة وتقسمت المجموعات… ولما دجن الإنسان الحيوان وتم الانتقال من الزراعة إلى الرعي تمكن من فهم سر الولادة ووعى الرجل بدوره الأساسي في عملية استمرار النسل. هذه المعرفة كانت العنصر الرئيسي في الانقلاب الذكوري التي انقلبت بموجبها موازين القوى!  حدث ذلك في عصر الكالكوليت أي 5000 سنة قبل الميلاد. ومع تكدس الثروات ظهرت النزعة الفردية لدى الرجال وقرروا سحب خيط النسل من المرأة بحيث لا يرث أرض ذكر ما إلا من كان من نسله. كان ذلك عمليا عبر التحكم في المرأة من خلال وضع حدود لنشاطها في المجتمع. ومحاولة السيطرة عليها وتقييدها

في هذا السياق انطلق مختصون في دراسة حضارات بلاد الرافدين (السومرية والآشورية والبابلية). في دراسة اللغة السومرية تقول ميادة كيالي (3) أن كلمة حب هي فعل مركب يعني حرفية قياسا الأرض أي أن مؤسسة الزواج كانت قائمة على أسس اقتصادية. لوضع أولى لبناته وظف المجتمع الذكوري مجموعة قوانين منها الزواج الأحادي على المرأة في حين تتعدد علاقات الرجل مع ما يتناسب وأهواءه. وفي هذا نجد تفسيرا للأفضلية التي يتمتع بها العنصر الذكوري في الأديان التوحيدية على حساب المرأة. إن أدلة حدوث هذا الانقلاب بينة ساطعة. إذ توجد إلى اليوم بعض المجتمعات الأمومية الصغيرة (4) حتى أنه يمكن تفسير كل ما تعيشه البشرية الآن استنادا عليه. فاستغلال جسد المرأة مقابل المال يجد أصوله في الفتوحات العسكرية في الالفية الثالثة قبل الميلاد حيث تم استرقاق النساء واضطهادها جنسيا. ورغم أن الرجال هم من يرتادون منازل الدعارة فإن التوصيم الأخلاقوي تعاني منه المرأة فقط. وعلى مار العصور كان رجال جميع الطبقات يرتادون منازل الدعارة ويسمحون لأنفسهم بكثرة العشيقات في حين يفرض حصار على النساء، بل إن اللواتي ينتمين إلى الطبقات العليا لا تعرف اسماؤهن وتحفظ سيرتهن من كل لغو أو شبهة في وصاية على جنسانية طرف مقابل إطلاق الحرية لطرف آخر.

إن ذكورية المجتمعات هي نتاج عوامل اقتصادية أساسا. هذه العوامل قلصت دورها في الحكم والسياسة والقرار. ولضمان تواصل سيطرته استعان الرجل بمجموعة من التشريعات والقوانين التي أضفت على هيمنته شرعية اكسبتها قدسية فيستعان مثلا بالأديان

الانقلاب الذكوري من زاوية يسارية

طالما اعتبرت المادية أن الإنسان نتاج ما يعيشه من تجارب وما يربطه من علاقات اقتصادية واجتماعية. وعلى عكس الفلسفة الهيجلية المثالية فإن نمط الإنتاج بما يحتويه من علاقات وأدوات إنتاج هو الذي يفرز البنية الفوقية من أفكار ومثل وثقافة وأديان وتشريعات. إذن أثر هذا المنوال الاقتصادي الذي يسيطر فيه الرجل على مجموع التصورات التي حكمت المجتمعات. وباعتبار أن العلاقة بين المادي والفكري هي علاقة تأثير وتأثر متواصلين فإن الأفكار التي انتجها هذا الواقع لم تكن سوى تردد لهذه الهيمنة …كما كانت العامل الذي أوجد دعائم تعزيزه وتركيز وجوده.

من هنا انطلقت كل من المؤسستين الدينية والسياسية في تقوية أسس هذه السيطرة وتشديد اعمدتها فكان أول مظاهر ذلك أن كان الإله مذكرا في الديانات التوحيدية. وإن كان كبير الآلهة كذلك في العصر الأمومي فقد وجدت الهات مؤنثة. هذه السلطة لم تنحصر في نواة العائلة بل انعكست على مجموعة أكبر وهي المجتمع. ورغم مرور الاف السنوات ورغم الفتوحات والحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية واالانتفاضات واندثار حضارات ودول، حافظ هذا النظام على ذكوريته يسانده في ذلك حتى العلماء والأدباء والمثقفون الذي كانوا أكثر حظوظا في الولوج إلى العلم على عكس المرأة والذين ساهموا في إكساب نزعة ذكورية عليه. ورغم لحظات الاختلاف بين المؤسسة العلمية والمؤسسة الدينية فإن الجامع الكبير بينهما هو شرعنة اضطهاد المرأة وخدمة رأس المال. في هذا السياق، نجد أن الرجال أكثر ميلا للخيانة. يشهد التاريخ الحالي على تفاقم هذه الظاهرة بشكل مريع.  وقد طور في فعل الخيانة شخصيات من أعظم ما انجبت البشرية فكرا وإبداعا. وليس من المبالغة أبدا القول بأن إمكانية فشل العلاقة تفوق حظوظ نجاحها

إن قضية المرأة هي من أكثر القضايا تجذرا في التاريخ وأبوية النظام ليست خاصية انتجها رأس المال بل هي واقع كل العصور وظفها النظام لتدعيم ركائزه. في هذا الإطار يجد الرجل نفسه في وضعية تطيح وتسمح له بالخيانة خاصة إذا كان صاحب مكانة في المجتمع، ذو سلطة أو مال(1)