الاستعمار الجديد والقديم بطبيعته انتحاري


يتركز الصراع المصيري حاليا في النيجر بين قادة الانقلاب والقوى المؤيدة لهم في داخل البلد وخارجه، وبين الحلف الفرنسي الأم...
سعيد كنيش

يتركز الصراع المصيري حاليا في النيجر بين قادة الانقلاب والقوى المؤيدة لهم في داخل البلد وخارجه، وبين الحلف الفرنسي الأمريكي والبلدان التابعة له من بلدان غرب أفريقيا خاصة نيجيريا والسنغال وكوت ديفوار، حيث يريد الحلف استرجاع حكم الرئيس المخلوع والحفاظ على الأوضاع التي كانت قائمة. ويبدو أن الصراع القائم قد يخطو نحو حرب مسلحة في المنطقة. حتى اليوم فإن فرنسا وأمريكا تدفع إليها بشكل غير مباشر عبر الدول العميلة بمنطق "علي وعلى أعدائي" لنشر الخراب والفوضى، وترفضان قبول حقائق الواقع الجديدة وعواصف التغيير والتحرر التي بدأت تنتشر في المنطقة، غير عابئة بتطلعات شعوب البلدان الأفريقية خاصة الدول المتجاورة في شمال وجنوب الصحراء الكبرى. النيجر هي حاليا بلاد محطمة ومنهارة ومستنزفة، بلا بنية تحتية أولية كالطرق المعبدة أو سكك حديدية تربط بين مدنها المتباعدة ولا انتاج محلي للكهرباء ( 18،6% من سكان النيجر لديهم كهرباء بينما النيجر تقدم 40% من الكهرباء الذي تستهلكه المدن الفرنسية بسبب تصدير اليورانيوم النيجيري ). لا ماء صالح للشرب، لا تغدية ولا مواد فلاحية، لا مدارس ولا مستشفيات تستجيب لحاجيات السكان المتزايدة. 80% من حاجيات شعب النيجر الأساسية تعتمد على المساعدات الخارجية، يعني بلد يتسول كل شيء. لذلك تعتبرها الأمم المتحدة أفقر بلد في العالم. رغم أنها أكبر بلدان غرب افريقيا CEDEAO الخاضعة للنفوذ الفرنسي مساحة (حوالي مليون و270 ألف كل م2)، ضعف مساحة فرنسا. وساكنة تفوق 17 مليون نسمة غالبيتهم شباب (حسب إحصاء 2012)، وثروات باطنية غنية وواعدة أهمها اليورانيوم كمصدر أول في العالم الذي تستحوذ عليه شركات فرنسية؛ فإن فرنسا لا زالت منذ عام 1904 تخضع النيجر لسيطرتها السياسية والأمنية والاقتصادية والمالية ولا زالت مستمرة سيطرتها بعد الاستعمار المباشر، بواسطة النخب النيجرية المرتشية والعميلة التي تعاقبت على الحكم. ولا يمكن أن تخجل دولة فرنسا الاستعمارية من جرائمها في النيجر وأفريقيا؛ فلا بد أن تهزم ليس فقط في النيجر ولكن في جميع مناطق نفوذها الإفريقية كاملة، ويتم اجتثاث وجودها كما يعبر المثقف الثوري فرانز فانون؛ كما حصل في الهند الصينية وفي الجزائر. فالاستعمار القديم والجديد لا يتعظ من دروس التاريخ فهو بطبيعته انتحاري .الانقلابات العسكرية في دول الجنوب هي صناعة تحركها وتتحكم فيها الأيادي الخفية للمركز الغربي الامبريالي بامتياز، وذلك منذ ما يعرف بالحرب الباردة. تحدث الانقلابات العسكرية أحيانا لمجرد الاختلاف على بند في تعاقد تجاري مع شركة غربية تحتكر استغلال إحدى ثروات البلد الخاضع. قليل هي الانقلابات التي خرجت على هذه القاعدة واتخذت توجها وطنيا معاديا للمصالح الغربية. وعندما يقع تغيير لا يرضي الغرب سيخضع البلد للعداء والحصار الشامل، وتعتبر حكومته مارقة وغير ديمقراطية وتعادي حقوق الانسان...إلخ، وينبغي الإطاحة بها مهما كلف الأمر من حروب أهلية، أو يجري اغتيال القادة كي لا تتحول إلى نهج وتقليد يخرج عن التحكم والسيطرة. فالمؤسسة العسكرية تخضع لقانون الصراع الطبقي التحرري، ولا تحلق فوق المصالح والاختيارات الطبقية المتناقضة داخل المجتمع الذي تنتمي إليه. فالوقائع التاريخية تؤكد هذه الحقائق ومع ذلك لا زال الكثير عندنا في دول الجنوب من الليبراليين والشيوعيين المزيفين يدافعون عن فزاعة الديمقراطية. فهل يستطيع برلمانا في البلدان الأفريقية التي تدور في فلك الغرب أن يغير بندا واحدا في عقود الشركات الغربية التي تحتكر نهب ثرواتها. الانقلاب الأخير هو العاشر في سلسلة الانقلابات التي عرفها البلد، ويبدو أنه لا يسير وفق أهواء ومصالح فرنسا وأمريكا، رغم أن فرنسا هي من تدعم تقليديا المؤسسة العسكرية وتسلحها بالكامل كمورد للأسلحة أو مانح، وتضعها قريبة من عيون مخابراتها. وتشرف على برامج التدريب وتغدق على رؤساء المؤسسة العسكرية الرشاوى لتأمين استمرار مصالحها. ومنذ 1983 بدأ الحضور العسكري الأمريكي المباشر في النيجر يرتفع، ويتركز على الدعم اللوجستي وبرامج التدريب والتكوين والاشراك في المناورات ضمن جيشها تحت ما يسمى "محاربة الإرهاب". وحاليا يوجد حوالي 1100 جندي أمريكي بمعداتهم الحربية فوق أرضي النيجر إلى جانب 1500 من الفرنسيين في قواعد بشمال البلاد. ومع ذلك انطلقت رياح التغيير من داخل المؤسسة العسكرية في مالي وبوركينا فاسو وانتقلت إلى النيجر. هل نحن أمام مسلسل استقلال حقيقي الذي توقف بعد أن هزمت القوى التي كانت تحمل مشروع التحرر الوطني وتحول البعض منها إلى بورجوازية عميلة، وتغير أيضا الوضع الدولي لما يسمى الحرب الباردة، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي الذي كان يسمح بتوازن في العلاقات الدولية وأعطى مساحة لبعض بلدان الجنوب ببناء مشاريع تحررية وتنموية لفائدة بلدانها. لا أستطيع الجواب على هذا التساؤل. لكن الهيمنة الامريكية وقيادة عالم أحادي القطب يقوم على قواعد هي من تحددها في الاقتصاد والمال والتجارة والعلاقات الدولية والأمن وفق مصالحها ومصالح حلفائها ضدا على ميثاق الأمم المتحدة. تم فرض على شعوب بلدان الجنوب البقاء ضمن البنيات الموروثة عن الاستعمار، وضعية مصدرين للمواد الخام دون قيمة مضافة في الأسواق العالمية التي تتحكم في أسعارها الشركات الاحتكارية الغربية من جهة، ومن جهة ثانية مستهلكين لمنتوجاته. ودعم أنظمة عميلة تخدم مصالح الغرب. و فرض سياسة تفكيك هذه المجتمعات واغراقها في حروب الإثنيات وصراع الهويات المقيتة التي تغذي الحروب على الحدود التي فرضها الاستعمار. هذا العالم بدأ اليوم في التغير وليس بإمكان الإمبريالية الغربية تأبيد سيطرتها على العالم. وفي أفريقيا كان بالأمس قادة ثوريون ألهموا الشعوب لذلك تم اغتيالهم بأمر من طرف القوى الاستعمارية مثل باتريس لومومبا في الكونغو وتوماس سانغارا في بوركينا فاسو وأميلكار كابرال في غينيا بيساو، وغيرهم من القادة حفروا بنضالهم التحرري أسمائهم في وجدان شعوبهم أمثال جمال عبد الناصر في مصر ومحمد بن عبد الكريم الخطابي في المغرب وكوامي نكروما في غانا و مانديلا في جنوب أفريقيا. هؤلاء وغيرهم من يلهم شباب أفريقيا اليوم والقوى الثورية الجديدة لاستكمال المشروع التحرري وتجاوز الأخطاء، رغم حملات التضليل الغربية من أجل التشطيب من ذاكرة الشعوب على حضورهم. من تابع خطاب رئيس بوركينا فاسو بالنيابة في الملتقى الإفريقي الروسي الأخير، سيعرف أن معركة اجتثاث قواعد الاستعمار من أفريقيا مستمرة، وأن ما يحرك شعوبها هو بناء عالم جديد يفتح الطريق لتحرر الشعوب وسيادتها وتنمية بلدانها والقضاء على الاستعمار والاحتكار والعنصرية والصهيونية، وليس استبدال هيمنة بهيمنة.