الغزو الروسي لأوكرانيا بين النهوض القومي البرجوازي وإرهاصات تشكل عالم جديد


منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، اشتغلت
الإمبرياليتين الأمريكية والأوروبية على تفكيك دول
الاتحاد، وأوروبا الشرقية...
Said Sougty

منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، اشتغلت الإمبرياليتين الأمريكية والأوروبية على تفكيك دول الاتحاد، وأوروبا الشرقية، ونجحت في حل حلف وارسو، وظل طموحها الاستراتيجي، هو كسر شوكة الاتحاد الروسي، من خلال تحويل أوكرانيا إلى دولة تابعة لحلف الناتو وخاضعة للإملاءات السياسية والاقتصادية للإمبرياليتين الأمريكية والأوروبية الغربية، خصوصا مع استغلال وجود أوكرانيا في موقع استراتيجي على مشارف حدود الاتحاد الروسي، فضلا عن توفرها على ثروات طبيعية وفلاحية تسيل لعاب الشركات الاحتكارية ، وذلك بهدف تطويقها سياسيا واقتصاديا أولا، ثم فك تحالفها مع الصين القوة الاقتصادية الصاعدة وبصفتها المستهدفة ثانيا. حول هذه التهديدات الإمبريالية، سبق لبوتين أن صرح بأن الولايات المتحدة الأمريكية ترغب في السيطرة على العالم وتكريس القطب الواحد، في مؤتمر المنتدى العالمي للأمن سنة 2007. على بعد سنة من هذا التصريح، تحركت الآلة الإعلامية للإمبريالية فكان أول اختبار لاختيارها الاستراتيجي، هو

إنجاز استطلاع للرأي سنة 2008 حول انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي، فصوت 44،7 % من السكان لصالح الانضمام، بينما عارض35،2%ممن شملهم الاستطلاع. استتبع هذا الاختبار التمويل السياسي لمؤيدي انضمام أوكرانيا لأوروبا إذ يلغ 5 مليار دولار منذ استقلال أوكرانيا حتى سنة 2013، من خلال منظمة غير حكومية تدعى" مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي"، وفي سياق التنافس على من يكسب معركة استمالة الشعب الأوكراني لصالحه، اتخذ الاتحاد الروسي قرارات سياسية واقتصادية مهمة، من بينها تخفيض سعر الغاز ورفع الحواجز الجمركية بين أوكرانيا وروسيا، وتقديم قرض بمبلغ 15 مليار دولار. في الأسباب المباشرة لاندلاع الحرب لقد تبنى لينين مقولة للمنظر الاستراتيجي للحرب: كلاوز فيتز " الحرب استمرارا للسياسة بوسائل أخرى" وهو الشيء الذي نلاحظه أمام أعيننا فمجرد انطلاق تعليق رئيس أوكرانيا آنذاك فيكتوريا نوكوفيش تنفيذ اتفاق شراكة مع الاتحاد الاوروبي بتاريخ 21 نوفمبر 2013، حتى بدأت المناوشات ثم تمردات التي انتهت بما سمي " بالثورة البرتقالية" سنة 2014، وتنصيب

حكومة مؤيدة وخاضعة للإمبرياليتين الأمريكية والأوروبية. وفي ظل النظام الحديد الموالي للغرب الامبريالي، تم دعم وتقوية الجناح النازي في جهاز الدولة ودمجه في الجيش بمشاركة الامبريالية الأمريكية، حيث أوكلت له مهمة تصفية السكان الناطقين بالروسية، مما أدى إلى مجزة في صفوف السكان الناطقين بالروسية، ذهب ضحيتها 14000شخص. على ضوء هذا الوضع المستجد، قامت روسيا بغزو أوكرانيا منذ فبراير 2014 كاستمرار للنزاع السياسي بين برجوازيتين امبرياليتين، حيث ضمت منطقة القرم الأوكرانية المتمتعة بالحكم الذاتي في مارس 2014، ومع تقدم العداء بين السكان الناطقين بالروسية والسكان الأوكرانيين، عمل نظام بوتين على تعميقه من خلال دعم مؤيديه ومساعدتهم عسكريا عن طريق قوات خاصة، وقبل غزو أوكرانيا في 24 فبراير 2022، تم الاعتراف بجمهورية دوني تسك وجمهورية لوغاتسك كدولتين مستقلتين، كرد فعل على اضطهاد السكان الناطقين بالروسية. الهدف من الحرب

منذ إعلان الحرب على أوكرانيا، تحدد هدفها في تغيير النظام القائم، وتحويله إلى نظام مؤيد لروسيا، أو على الأقل يصبح نظاما محايدا، مع نزع طابعه النازي، غير موالي للغرب ومنزوع السلاح النووي لحماية الأمن القومي لروسيا، والاعتراف بالقرم كأرض روسية، إن احتلال منطقة دو نباس على الساحل البحري لأوكرانيا، ومحطة تشيرنوبيل النووية، يعد تحولا استراتيجيا، في فرض التفاوض مع الطرف الثاني في الحرب وانتزاع مكاسب مهمة.

في الموقف اليساري السديد إن تداعيات الحرب في أوكرانيا، ستخيم بضلالها على العالم، فرغم العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، والدعم السياسي وشبه عسكري للحلف الأطلسي تحت قيادة واشنطن للنظام في أوكرانيا، فلن تؤدي على المدى القصير إلى إنهاء الحرب، مادامت مسببات الحرب مرتبطة بطموح الامبرياليات الامريكية والأوروبية، لضم أوكرانيا لحلفهما من جهة، ولاستقواء البرجوازية الروسية بأوكرانيا لتوسيع نفوذها في منطقة" الاتحاد السوفياتي" سابقا من جهة ثانية.

من وجهة نظر يسارية لا يمكن تبرير غزو روسيا أوكرانيا، وبالتالي فمسؤوليتها في الحرب تتحملها وحدها، في الوقت الذي يجب التأكيد على أن حلف شمال الأطلسي بقيادة واشنطن كان منذ تفكيك " الاتحاد السوفياتي" قد مهد الطريق لمثل هذه المواجهة من أجل إضعاف الأوليغارشيا الروسية حليفة الصين ضد القطب الواحد، كما شرحنا في بداية هذا المقال. إن الموقف اليساري السديد من الحرب في أوكرانيا، هو نفس الموقف الذي تبناه لينين إبان الحرب العالمية الأولى، فاتخاذ موقف مناهض للحرب الامبريالية، يفترض تحويل هذه الحرب إلى حرب أهلية ثورية، لكن السياق الذي تجري فيه يجعلها محكومة بالتوازنات السياسية بين طموح قومي برجوازي روسي للتوسع في الأراضي المتاخمة لحدودها، وبين طموح الحلف الأطلسي لاستعادة ريادته في الهيمنة على المعمور، فيما يستوجب على اليسار الثوري تقوية الكتلة الثالثة الثورية المشكلة من الطبقات الشعبية وعلى رأسها الطبقة العاملة، حيث تخضع أدوات مقاومتها لنوع من التدجين البرجوازي.

العالم القديم انتهى، والعالم الجديد تأخر في الظهور...وما بين العتمة والضوء تولد الوحوش: أنطونيو غرامشي غير أن هذا الوضع الجيو- استراتيجي، رغم طابعه الامبريالي ذو المضمون الطبقي البرجوازي المهيمن على المعمور، فإننا نشهد إرهاصات تشكل نظام عالمي جديد، ميزته الرئيسية أنه متعدد الأقطاب في ظل سيطرة الرأسمالية المعولمة. في سياق هذا التحول تبرز الحاجة إلى استشراف آفاق التغيير الثوري بالنسبة لمجموع قوى اليسار في العالم، وضرورة تأسيس أممية شيوعية جديدة تعيد للإنسانية بريق التحرر الاجتماعي والسياسي من كل أشكال الهيمنة والاضطهاد والاستغلال.

الكتاب: سعيد السوقتي و حسن الصعيب