لماذا أخفق لينين في ترجمة شعار "ديكتاتورية البروليتاريا"


Photo by <a href="https://unsplash.com/@sovietartefacts?utm_source=unsplash&utm_medium=referral&utm_content=creditCopyT...
Hassan Saib
Hassan Saib

Photo by Soviet Artefacts on Unsplash

أوكيف دعم لينين نظام الشغل  التايلوري الرأسمالي.

منذ أواسط السبعينات تبلور أدب ماركسي نقدي إزاء التجربة الاشتراكية السوفياتية، خصوصا مع كتابات شارل بتلها يم وروبيرلينهارت وسمير أمين، إلا أنه ازدهر بشكل أكثر دقة مع مفكرين ماركسيين معاصرين ، بعد انهيار "التجربة الاشتراكية الفعلية"، إذ أثاروا الانتباه بشكل نقدي إلى العوائق الاقتصادية والسياسية التي حالت دون التقدم الحثيث في تبوأ الطبقة العاملة الموقع الأساسي في بناء الاشتراكية، على أسس صلبة، ولعل الاهتمام الأساسي قد تركز حول الخصائص النوعية في هذا البناء الاشتراكي.

وإذا كان المشاع الثقافي المشترك بين الماركسيين ، قد حدد نمط الإنتاج الاشتراكي كنمط إنتاج انتقالي ، يدمج بعض خصائص نمط الإنتاج الرأسمالي مع بعض خصائص نمط الإنتاج الرأسمالي ، فإنهم قد اختلفوا حول الوسائل الاقتصادية والسياسية التي تضمن المرور السليم إلى الاشتراكية الحقة ، في هذا السياق توقفوا عند شروط هذا الانتقال الذي كان محفوفا بمخاطر وإكراهات متنوعة ومختلفة فرضتها شروط الحرب الحرب الامبريالية ، وما خلفته من خراب اقتصادي واجتماعي، وانهيار بنية الطبقات الشعبية وعلى رأسها الطبقة العاملة في ظل الحرب الأهلية.

كان لينين ومن خلفه تيار البلشفية قد تبنيا التايلورية "كتنظيم علمي للإنتاج " أو كإدارة علمية للعمل" مند سنة 1918، أي سنة بعد نجاح ثورة أكتوبر1917، ثم أدمجت بشكل عملي منذ عام 1921 كجزء من الاقتصاد السياسي الجديد(NEP ( ،وقد تم القبول بمبادئها من قبل قادة الاتحاد السوفياتي طيلة 70 سنة من "التجربة الفعلية الاشتراكية"، و فيما بعد تم تعميمها على النقابات والحركة العمالية الأوروبية والشيوعية التي عانت من ويلات وأضرار تطبيق التايلورية والفوردية التي كانت عنصرا مشتركا في فرض قيود اجتماعية وسياسية على الطبقة العاملة في النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي .

من المفارقات التي يسجلها التاريخ هو أن لينين قد تبنى موقفين متعارضين من التايلورية خلال أزمنة مختلفة، ففي سنوات 1913 و1914، نشر في البرافدا مقالات تنتقد النطام التايلوري، إذ بدأ انتشار تطبيقه في روسيا وأوروبا  وأمريكا في خريف 1912-1913، وتعرض لمقاومة شديدة من قبل الحركة العمالية الأمريكية والأوروبية، إلى درجة أن عمال شركة رونو قد نظموا إضرابات بطولية ضده نالت شهرة عالمية في تاريخ الحركة العمالية الأوروبية.

شدد لينين في مقالاته على طابع الاستغلال المكثف الذي يسمح به النظام التايلوري، من خلال تطبيق مبادئه التي تنص على إلزامية العامل بتنفيذ كل ما يمليه عليه الباطرون  من إجراءات وتدابيرفي غاية الشدة والإنهاك الجسدي والنفسي،والتي تخضعه لتعذيب الآلة، عن طريق إشراف المديرين التنفيذيين، بغاية الزيادة في الإنتاج ، وتخفيض تكلفة الإنتاج، وقد خلص لينين من تلك المقالات إلى تبيان النتائج المدمرة للإنسان والمجتمع، حيث الاستغلال المكثف في ازدياد كما البطالة والفقر، وفي تعليقه على كتابين خاصين بنظام تايلورأبرز لينين العلاقة القائمة بين التايلورية وتطور" الأرستقراطية العمالية "كما حاول تركيز التناقض بين تنظيم أكثر "عقلانية" للعمل في داخل المصنع و"الفوضى" الاقتصادية التي تنتشر في المجتمع.

انطلاقا من هذه الفكرة الجوهرية في منظور لينين ، ستعرف الفترة اللاحقة ، ابتداء من مرحلة تحرير كتابين :"الإمبريالية أعلى مرحلة الرأسمالية" و"الدولة والثورة" إعادة قراءة التايلورية، لاستعمالها في بناء المشروع الاشتراكي،ففي كتاب الإمبريالية سيعلن على أن التايلورية هي "عقلانية تقنية" ويمكن استخدامها كشكل انتقالي يهيئ الاشتراكية في عصر الرأسمالية الاحتكارية. غير أن لينين وهو يبحث عن السبيل الصحيح لترجمة المشروع الاشتراكي ،ظل الخيط الرفيع الذي يحكم كل تفكيره حتى مماته هو التعامل مع التقنية واستيراد التكنولوجيا من أمريكا وأوروبا واستدعاء الخبراء والمهندسين رغم تكلفتهم الباهضة،كأنه شيء محايد، يكفي فقط أن يكون محميا من قبل الدولة الاشتراكية ومضمون النتائج في ظل سلطة السوفيات. كان يرى الجانب الإيجابي في التايلورية في كونه يضاعف من إنتاجية العمل الذي يمثل مكانة مركزية في تفكيره الاستراتيجي، قبل أن يصبح مسألة حياة أو موت مع تطبيق السياسة الجديدة، إذ عززت لديه  منطق الضرورة التاريخية لتطبيق نظام تايلور، في ظل تخلف كبير مع الغرب الإمبريالي، وبهذا التبني كرس بشكل موضوعي فكرة اللحاق بالنظام الرأسمالي المتطور ، وللتدليل على ذلك يقول لينين في مقالته :" المهام المباشرة أمام السلطة السوفياتية" إن الدولة الاشتراكية لا يمكن أن تنشأ إلا بشكل من كومونات الإنتاج والاستهلاك، كمونات تخص بكل دقة إنتاجها واستهلاكها، وتوفر العمل وتزيد إنتاجيته باستمرار، وتتوسل على هذا النحو إمكانية تخفيض يوم العمل إلى سبع ساعات ، وست ساعات، وأقل أيضا، وفي هذا الميدان لا يمكن الاستغناء عن أوسع ما يكون من الحساب والرقابة الشعبيين وأشدهما صرامة فيما يخص الحبوب وإنتاج الحبوب" ومزيدا من التدقيق يلح لينين على ضرورة تعلم العمل باعتباره " المهمة التي يجب أن تضعها السلطة السوفياتية أمام الشعب بكل مداها .إن آخر كلمة الرأسمالية بهذا الصدد، أي نظام تايلور، تجمع شأنها شأن جميع منجزات الرأسمالية، بين قساوة الاستثمار البرجوازي المفرطة في التفنن وعدد من أثمن الفتوحات العلمية المتعلقة بتحليل الحركات الميكانيكية في العمل وإلغاء الحركات النافلة والخرقاء، وصياغة أكثر طرائق العمل عقلانية، وتطبيق خبرة أنظمة الحساب والرقابة...إلخ وعلى الجمهورية السوفياتية أن تتبنى مهما كلف الأمر، كل ما هو ثمين من فتوحات العلم والتكنيك في هذا الميدان. وإننا سنتمكن من بناء الاشتراكية على وجه الضبط بقدر ما ننجح في تنسيق السلطة السوفياتية ونظام الإدارة السوفياتية مع أحدث منجزات الرأسمالية، يجب أن ننظم في روسيا دراسة نظام تايلور وتعليمه، واختباره وتكييفه بنهج ودأب واطراد، ويجب أيضا ، مع السعي إلى زيادة إنتاجية العمل ، حسبان الحساب لخصائص مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، التي تتطلب من جهة، إرساء أسس التنظيم الاشتراكي للمبادرة ، ومن جهة أخرى استعمال الإكراه لكي لا يتدنس شعار ديكتاتورية البروليتاريا من جراء رخاوة السلطة البروليتاريا في الحياة العملية" .هذه القراءة لإدماج  نظام الشغل التايلوري في المشروع الاشتراكي جعلت لينين يعتبر أن إلغاء التعارض بين العمل اليدوي والعمل الفكري هو النتاج النهائي لتطور قوى الإنتاج، وليس نتاج النشاط التحرري للطبقة العاملة.ذلك أن المهمة المركزية لديكتاتورية الطبقة العاملة هي تحرير قوى الإنتاج وتقليص وقت عمل الجماهير من أجل إدارة أعمال الدولة، فالمسألة الحيوية بالنسبة للطبقة العاملة هي امتلاك السلطة ، أي التحكم في دواليب الدولة ، وليست صيرورة العمل المنتج، "إن هدفنا أن يقوم جميع الشغيلة مجانا بوظائف الدولة ، حين ينتهون من الثماني ساعات في العمل المنتج. إن الانتقال إلى هذا الوضع أمر في غاية الصعوبة ، ولكنه وحده ينطوي على ضمانة توطيد الاشتراكية نهائيا" ، يشير هذا التعاطي  مع مشروع بناء الاشتراكية على تكريس التقليد التاريخي للأممية الثانية والأممية الثالثة الذي يؤكد على أولوية تطوير قوى الإنتاج على أولوية علاقات الإنتاج .مع الأسف لم ينصف التاريخ وجهة نظر كولانتاي التي دافعت عن وجهة نظر تقول:" كان من الضروري التخلي عن تطبيق التقنية الصناعية الرأسمالية، واختراع تقنية أخرى من أجل تعبئة المبادرة التقنية للجماهير".

خلاصة: دلت تجربة التصنيع في الاتحاد السوفياتي في سياق اللحاق بالغرب الرأسمالي ، بعد تطبيق النظام التايلوري والفوردي كمبادئ سائرة المفعول  وبدون مراجعة على ضوء تقليص الدور السياسي للطبقة العاملة على مستوى تسيير دواليب الدولة، في سيرورة العمل المنتج ،عن مساوئ كثيرة، أهمها سيادة النزعة الإنتاجوية في "التجربة الاشتراكية الفعلية"، عدم الاهتمام بمسائل العمل وكيفية تنظيمه بما يخدم تحرر الطبقة العاملة، وتفجير طاقاتها من أجل تعميق الديمقراطية العمالية، عوض عنصر استلاب وسيطرة، انفراد إدارة المصنع بتنفيذ مبادئ تتنكر من حيث المبدأ بالحق الجماعي للعمال في العمل والتفاوض على شروط العمل والقواعد التي تحكم التنظيم الملموس للعمل، تفويض  مصيرالعمال إلى المديرين التنفيذيين باعتباره انعكاسا أو إعادة إنتاج تقسيم العمل بين أولئك الذين يصممون العمل أي المديرين وأولئك الذين ينفذون شروط العمل المجحفة وهم في الغالب عمال ومستخدمين،سلطة  الفصل بين الديمقراطية في المصنع، والديمقراطية على صعيد الدولة والمجتمع.

لقد حاول لينين من خلال تنظيره لشروط الانتقال إلى الاشتراكية، استخدام تطبيق النظام التايلوري الرأسمالي رغم عيوبه المتجلية في انضباط العمال لإرادة الرأسمال بشكل قسري، لكنه رأى جانبه الإيجابي المتعلق بطابعه "العقلاني التقني" في قدرته على الزيادة في الإنتاج، وتصوره كحامل موضوعي للتنمية الاقتصادية، لتشكيل القاعدة المادية لتطور المجتمع الاشتراكي ،من خلال تممفصلها مع سيادة سلطة السوفيات باعتبارها تجسد مضمون المؤسسات الديمقراطية الجديدة في النظام الاشتراكي، غير أن جدلية الاقتصادي بالسياسي التي نظر لها ، افتقدت إلى وحدتها الجوهرية، عندما سمح بشكل متناقض، بدعم ديمقراطية الطبقة العاملة ومشاركتها الوازنة في المهام الإدارية، والمحاسبة الاقتصادية ( دفع الجماهير إلى تبني ممارسة اجتماعية جديدة في إدارة الدولة والاقتصاد)، لكن على مستوى تسيير وحدات الإنتاج، سمح بتركز جميع السلط في يدالمديرين التنفيذيين، أو أطر الإدارة، وعبراستعمال أدوات الإكراه من أجل فرض نظام الإنتاج دو الخصائص الاشتراكية، مما ساعد على إعادة إنتاج الأرستقراطية العمالية لكن هذه المرة بطابع اشتراكي. إن الشرط الأساسي لتحرر الطبقة العاملة هو التخلص من أعباء العمل المضني من خلال تقليص ساعات العمل إلى الحد  الذي يوفر لها  بشكل موضوعي أوقات الفراغ الضرورية لكي تمارس سلطتها السياسية ، ولن يتم ذلك إلا بالتغيير الجدري لنظام الشغل الذي يعزز من الطابع الاشتراكي للعمل ،  ذلك أن شروط إلغاء تقسيم العمل بين العمل الفكري والعمل اليدوي ، تنطلق منذ اليوم الأول في وحدات الإنتاج،  ولكن من خلال ترجمة أنموذج للإنتاج اشتراكي يستهدف في الجوهر إنتاج القيم الاستعمالية بمضمون ثقافي بيئي تحرري ونسوي.

مراجع:

-Robert Linhart : Lenine , Les paysans, taylor

Bruno Trentin : La Cité du travail -

-عاشت ثورة أكتوبر: سمير أمين

- المهام المباشرة أمام السلطة السوفيتية: لينين

هناك اطروحة تقول ان لينين قبر الماركسية، أولاً وقبل كل شيء، لأنه حاول أن "يطبقها" على أرض الواقع، أي إنه حاول أن ينزلها من عالم الأفكار والنظريات والفرضيات إلى عالم الواقع الملموس، ومن عالم الأحلام إلى عالم الحياة الحقيقية وجسد هذا باطروحة دكتاتورية البروليتاريا

كذلك تظيف لأن المجتمع الشيوعي الذي يصوره أنصار "الماركسية اللينينية المحنطة" هو مجتمع لاإنساني خالٍ من كل بهجة من بهجات الحياة كما نفهمها نحن ) وأن كل من حاول تحقيق "الحلم الشيوعي" على أرض الواقع، بصورة "علمية"، في أيامنا نحن، باء بالفشل وحول الحلم بالإنعتاق إلى عبودية

اطروحة تناقش

تحياتي