جواز الإلهاء لتمرير الغلاء وعدم الوفاء


في مقال للفيلسوف الأمريكي نعوم شومسكي استند فيه على وثيقة مصنفة أنها سرية للغاية، يعود تاريخها إلى عام 1979م، وتم العثو...
  م.إسماعيلي

في مقال للفيلسوف الأمريكي نعوم شومسكي استند فيه على وثيقة مصنفة أنها سرية للغاية، يعود تاريخها إلى عام 1979م، وتم العثور عليها عام 1989م، وتحمل عنوانا مثيرا هو "أسلحة صامتة لحروب هادئة" تحدث في هذا المقال عن فكرة إلهاء المجتمعات واستراتيجية الهيمنة على الشعوب والسيطرة على الرأي العام والتحكم في توجهاته. وخلاصة هذه الاستراتيجية : "أن من وسائل السيطرة على الشعوب تتضمن معاملة الناس بوصفهم أطفالا، واستثارة عاطفتهم بدل فكرهم لتعطيل التحليل المنطقي والحس النقدي لديهم، وإبقائهم في حالة جهل وغباء".وتُعَد سياسة الإلهاء مهارة وذكاء تعتمد على تحويل وإبعاد الرأي العام عن الأمور المهمة وإشغاله بمشاكل وأمور أقل أهمية او تافهة حتى من خلال استعمال مختلف الطرق سواء كانت الإعلام المضلل أو الترويج للإشاعة أو اختلاق مشاكل تافهة أو اللجوء إلى طرق خفية يصعب اكتشافها.. وهكذا عندما تقع الأنظمة الحاكمة في أزمة داخلية يصعب حلها تلجأ إلى افتعال أزمة سواء داخلية أو خارجية لتحويل أنظار الشعب عن المشاكل الحقيقية التي تتخبط فيها الدولة إذ تعجز الحكومة عن تحقيق وعودها للمواطنين من جهة وعن حل مشاكلهم وتلبية مطالبهم من جهة أخرى.. سياسة الإلهاء قديمة قدم الأنظمة الحاكمة الشمولية والديكتاتورية والأوتوقراطية وهي جزء من استراتيجية الإحتواء التي تنهجها هذه الأنظمة.. وفي التاريخ الحديث تبنى هذه الاستراتيجية والسياسة الزعيم النازي أدولف هيتلر صاحب المقولة الشهيرة “إذا أردت السيطرة على الناس أخبرهم أنهم معرضون للخطر، ثم حذرهم أنّ أمنهم تحت التهديد، ثم خَوِّن معارضيك وشَكِّك في ولائهم ووطنيتهم”. لقد أصبح التحكم والسيطرة على الرأي العام يُدَرَّسُ في أكبر الجامعات العالمية وأكثرها رقيا. فالتحكم في الجماعات أسهل بكثير من التحكم في الأفراد.. وهذا ما يسعى إلى تعلمه وتطبيقه رجال السياسة والطبقة الحاكمة من خلال عملية الإلهاء لينسى الشعب وعود أمس. فالسياسة في بلادنا قائمة على محو الذاكرة وقد خلص المفكر عبدالله العروي إلى ذلك من خلال مساره الطويل من اشتغاله على السياسة والتاريخ إذ أورد حكمة بليغة في مذكراته تقول أن «عدو رجل السياسة هو المؤرخ حتى وإن كان هذا المؤرخ مأجورا. لماذا؟ لأن هذا الأخير يُذكر ويتذكر». بينما يسعى رجل السياسة إلى التناسي والنسيان باللجوء إلى عملية الإلهاء وفي هذا الإطار يمكن اعتبار إلزامية جواز التلقيح بمثابة إلهاء لتمرير الغلاء والتملص من الوفاء.. لا أعتقد أن هناك من يقلل أو يشكك في أهمية جواز التلقيح أو عملية التلقيح ذاتها إذ يكفي الإشارة إلى أرقام ونسبة الملقحين لاستبعاد أي إشكال مفتعل حول هذا الأمر.. لكن الذي يثير الاستغراب والشكوك هو الطريقة المفاجئة التي تم مباشرة تطبيق إلزامية هذا الجواز في وقت نزلت فيه أرقام المصابين بكوفيد 19 من 12.009 مصاب بتاريخ 5 غشت2021م إلى فقط 255 مصاب بتاريخ فرض جواز التلقيح 21 أكتوبر 2021م واستمر النزول في عدد الإصابات إلى 101 مصاب فقط بتاريخ أول أمس 25 أكتوبر 2021م. ووصلت فيه أرقام الملقحين إلى 23.537.460 بالنسبة للجرعة الأولى و 21.318.652 بالنسبة للجرعة الثانية و 918.953 بالنسبة للجرعة الثالثة. وإن دلت هذه الأرقام عن شيء فإنما تدل على أن عملية التلقيح تسير بانتظام وأن الحالة الوبائية لا تستدعي ذلك الإنزال والإخراج والتطبيق التعسفي والمستعجل لجواز التلقيح كما أن حالة الطوارئ في ظل هذه الارقام لا تستوجب إصدار بلاغ حكومي بهذه العجالة لاعتماد جواز التلقيح ” كوثيقة معتمدة من طرف السلطات الصحية، وذلك استنادا للمقتضيات القانونية المتعلقة بتدبير حالة الطوارئ الصحية" . كما ورد في البلاغ المذكور. فقد كان الأولى أن يتم التواصل بشأنه مع المجتمع ومنح الوقت الكافي للمواطنين للقيام بما يلزم صحيا.. كما كان من الأحسن أن يتم تمريره عبر نص قانوني من خلال البرلمان لو كانت نية الحكومة فعلا سليمة ويهمها مصلحة المواطن وصحته وهكذا يفسح المجال لممثلي الأمة في إبداء رأيهم في موضوع إلزامية جواز التلقيح ويتم فتح نقاش واسع يشارك فيه المختصون عبر مختلف وسائل الإعلام والتواصل وكل ذلك في إطار من الوضوح والشفافية لكن الهدف ليس إلزامية جواز التلقيح من عدمه وإنما الغرض هو الإلهاء من خلال فتح معركة هامشية وتصادمية بين مكونات المجتمع في ما بينها من جهة وبينها وبين السلطة من جهة أخرى وكل ذلك من أجل إخفاء تمرير الغلاء في صمت وعدم الوفاء بالوعود.. إخفاء تمرير الزيادات الصاروخية التي عرفتها بعض المواد الغذائية مثل الزيت التي وصل ثمنها إلى 84 درهم بدل 64 درهم لخمس ليترات وارتفاع سعر المحروقات التي تجاوزت عشرة دراهم للتر الواحد وبذلك تصبح ضمن الأعلى سعرا عالميا مقارنة مع باقي الدول المستوردة للمحروقات.. وإخفاء ما يحمله قانون المالية من ضرائب ستثقل كاهل المواطن وتنهك قدرته الشرائية.. وعدم الوفاء بالوعود الوردية التي كان ينثرها رئيس الوزراء ومن معه أثناء حملتهم الانتخابية.. هذه الوعود التي قالوا عنها أنهم سيحققونها بمجرد توليهم المسؤولية.. وأننا سنلمس التغيير منذ اليوم الأول لتنصيبهم.. اللهم إذا كان المقصود بالتغيير هو أسرع تغيير وزاري على الإطلاق والزيادة المهولة في أسعار الدواجن والقطنيات والزيوت والزيادة في أسعار المحروقات... إذا كانت الحكومة تهمها فعلا صحة المواطن... فالأحرى أن توفر له سبل الحياة الكريمة بضمان لقمة عيشه أولا تلك هي المناعة الفردية قبل المناعة الجماعية .. فكيف يكون بصحة جيدة ويكتسب مناعة ضد كوفيد19 من كان فيروس الفقر والجهل والبطالة والظلم والحكرة ينخرون جسده.. أي مناعة سيكتسبها من لا يملك قوت يومه.. من لا يجد ما يطعم به عياله ويسد به رمقهم.. من لا يجد شغلا.. من لا يجد مأوى.. من تعطلت كل مصالحه من جراء هذه الإجراءات دون تعويض يذكر.. إن هذا المقال لا يهدف إلى الاستهانة بمعركة تريدها الحكومة عملية إلهاء بعيدا عما ينتظر البلاد والعباد لكن لا يجب أن تلهينا معركة جواز التلقيح رغم أهمية التلقيح ذاته عن معركتنا الأساسية ضد سياسة التفقير والتجهيل.. ولنسأل أنفسنا ماذا سنستفيد إذا ربحنا معركة إلغاء جواز الإلهاء وخسرنا معركة الغلاء.. فأيهم أشد فتكا بنا .. الفقر أم هذا الوباء..