شهيدة فلسطينية


قصة عن رفيقة مناضلة سقطت في عمان شهيدة من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في أيلول اليوم السابع من المعارك الضارية في الوح...
مريم أبو دقة

قصة عن رفيقة مناضلة سقطت في عمان شهيدة من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في أيلول اليوم السابع من المعارك الضارية في الوحدات.

أجلس بعد وقوف وقد احمرت راحتي، وعلا صدأ الرمال شعر رأسي لأسجل بعض ما يمر حولي من حوادث، وأكتب وماذا أكتب؟! وهل لدي وقت للكتابة؟! وهل في مثل هذا الوقت يكتب الإنسان وعن من يكتب؟!

هذه الجبال التي تعانق السحاب وهذه الصخور التي احتضنت ألوف الثوار عبر العصور، وهذه المروج الخضراء التي تمتد على مد البصر كان شعبي المشرد يرتع في أفيائها هناك في الرمال المبعثرة وفي جوف الخنادق تناثرت أشلاء رفيقتي المناضلة لتضمها الجبال والصخور كما ضمت سابقيها.

هناك في مخيم الوحدات قاتل الأعداء وقلعة التحدي والصمود سحلت دماء رفيقتي ولم يستطيع تسجيله القلم، هناك روت قصة البطولة وروح التضحية، هناك في المخيم ومن كوخها الصغير.

بداية القصة وبداية المجزرة

أجل، الوطن غالٍ وعزيز والحرمان منه مقيم والحنين إليه ناراً تتأجج بين الجوانح وتضطرم بين الضلوع وعقاباً لحبنا للوطن جازانا العملاء، عاقبنا لأننا آمنا بقضية عادلة، تصدوا لنا بالعدوان الغاشم في الأردن تنفيذاً لمخطط الإمبريالية العالمية.

وفي السابع عشر من أيلول نفذ المجرمون خططهم العمياء وأيقظونا من نومنا على هدير المدافع وطلقات الرصاص، لمعان القنابل الفسفورية ودبابات البتون، وكنا على حذر وموزعين في الكمائن نعلم ما يدبره لنا العملاء في هذه الأثناء صعد ضجيج حاد من الصراخ والآهات، تساقط عديد من الجرحى والشهداء.

استيقظ الناس وكأنهم في حلم عميق لا يكادوا يلتقطوا أنفاسهم حتى وآلاف الأطنان من القذائف والمتفجرات الناسفة تردم من تحتهم الأرض ومن فوقهم المنازل.

المقاتلون هنا وهناك في كل شبر زرعوا فيه جثث وضعوها لتكون جسر لعبور رفاقهم ليقتحموا من فوقه قلاع أعدائهم المحصنة ويعرقلوا تقدم آلياتهم وتصدوا للدبابات بالميليتوف وللمدفعية بالرشاشات وتوزعوا في كل مكان مضحين في كل ركن وفي كل اتجاه من اتجاهات الوحدات.

أشبالنا تتصدى للدبابات بعتاد وإصرار وبريق أعينهم يوحي بالانتصار الحقيقي.

تناثرت المنازل بين السماء والأرض وامتلأت الطرقات بالجسور الشامخة وترائى أمامنا حطام الدبابات وجثث الجنود الغادرين وأم فايز وسطهم، وسط المقاتلين تلوذ بكلتا يديها مبتهجة من هنا جاءت دبابة، وهناك فوق السطح أرى ناظور للعدو وجانب المكتب الخلفي كتائب للعدو متقدمة.

لقد عرفت أم فايز منذ أن وجدت في الثورة تلك الفلاحة البسيطة الفقيرة تعيش مع زوجها العامل ولديها الصغيرين في كوخ من الزينكو وتطرب على صوت المطر في فصل الشتاء عندما يطرق أثناء سقوطه على بيتها، أعجبت بها لأنها أول فلاحة تمردت على واقعها مراعية كل الظروف المحيطة بها، ورغم حالة التخلف التي كانت تعم المخيم في ذلك الوقت إلا أنها شقت طريقها وتمردت بكل لباقة ثورية واستطاعت أن تقنع زوجها بالعمل في صفوف الجبهة الشعبية وتلقي عليه كل يوم محاضرة عن مبادئ الجبهة واستراتيجيتها بفقرات صغيرة إلى أن مكنت نفسها وفرضت وجودها ونالت ما أملت أن تناله منذ أن وجدت في الثورة.

روت لزوجها قصة الأرض والوطن والاستعمار بأسلوب يشعره بالحنين والانشداد حتى سمح لها بالاشتراك بالمسيرات الشعبية وحضور الاجتماعات، وناضلت بعد أن خلقت الوعي في عقل زوجها حتى سمح لها أن تذهب إلى التدريب، لم تكن تنظر إلى حريتها من خلال خلعها للثوب وارتدائها ملابس العصر الحديث، بل كان المجال أمامها مفتوح ولكنها رفضت أن تغير المرأة مظهرها ما لم يتغير الجوهر، رفضت أن تعتبر المرأة أن حريتها هي كيف تلبس وتخرج إلى المقاهي والسينمات بل عملت بكل وجودها وأوضحت أن حرية المرأة غير ذلك تماماً، هي مساواة المرأة بالرجل في كل مجال من مجالات العمل والنضال وأن تثبت المرأة قدرتها على العطاء كما يعطي الرجل وتشعر بأنها إنسانة مثله تماماً يجب أن تعيش إنسانة في المجتمع وليس دمية للرجل، كانت تخرج في المسيرات الشعبية والمظاهرات ولا تتغيب لحظة واحدة عن أي اجتماع، ذهبت إلى المعسكرات وتلقت التدريب هناك، كانت تعطينا بثوبها الفلاحي الدرس الذي لا ننساه عن السرية في العمل، وتقول لنا "أنا لا أريد أن أرتدي الزي العسكري، لا لأنني أكرهه بل أقدسه ولكن لأنني أشعر أنني أقاتل بالثوب أو باللباس العسكري أو بأي زي كان والمهم الجوهر وليس المظهر، ولكن قتالي بالثوب لن يكشفني أمام أعدائي ولا يشكك فيّ".

يا لها من جبارة قوية، حالة الفقر التي كانت تعيشها لم تدفعها مرة واحدة لأن تتخلى عن كبريائها وتحكي عن ما تحتاج إليه لأنها كانت تشعر دائماً أنها بأي حال تستطيع أن تعيش إنما الثورة يجب أن تستمر والمقاتلين يجب أن يبقوا، كان شعورها بالظلم والفقر يدفعها لأن تثور وتثور، ثورة مضاعفة، ثورة من أجل تحرر المرأة وثورة على الظلم والاستعمار.

كانت تعاملنا بأرقى معاملة رفاقية، كانت أم لكل رفيقة ورفيق لها أيضاً، كانت تجمع التموين ليلاً وتوزعه على المقاتلين دون تمييز، لن أنسى تلك الليلة الحافلة والتي باتت طوالها تبكي لا لأنها ضعيفة ولا لأنها فقيرة ولكن لأجل السلاح، لم يكن لدينا إمكانية لإعطاء كل التنظيم سلاح، وقررت القيادة على أن نتبادل السلاح مع بعضنا البعض لأداء مهماتنا النضالية، لم تيأس أم فايز ولم تهن بل ذهبت إلى مكتب الصاعقة القربب من كوخها الصغير حيث تقطن أم فايز وطفلها فايز وفايزة وزوجها المنهك من العمل في فترة استراحتها المتاحة لها.

وأخذت منهم قنابل اعتزت بحملهم في حزام ناسف حول وسطها فوق ثوبها الأسود القاتم وافتخرت بأنها جلبت إلى التنظيم حزام قنابل دون أن تكلفه إياه، أحبت العطاء ببساطة المقاتل الفقير المنزرع في الأرض والثورة، وبرقت عيناها في وطيس المعركة، كنا نسير في مجموعات ونتبدل في أعمالنا، فرق للإنقاذ والاسعافات وفرق للحراسة وفرق انتحارية وفرق للتموين وتزويد المقاتلين وفرق للاستطلاع، نتبادل مهماتنا دون أي شعور بالملل، تنطلق ضحكاتنا مع طلقات الرصاص وهي وسطنا تحضننا بحبها وعلاقاتها الرفاقية تاركة زوجها وطفليها تحت القذائف المسعورة، مرتاحة لأنها تخطت كل الحواجز لتساهم عملياً في النضال، تصب علينا كلماتها التي تزودنا بها في كل لحظة من لحظات القتال قائلة لنا "أيتها الرفيقات قاتلن، لا تخفن أسلحة المرتزقة فإن قتلتن فسوف يفخر بكن التاريخ وستكون الخطوة الأولى من رحلة الألف ميل، وإن بقيتن فسنستمر على نفس الدرب إلى آخر المطاف، إيمانكم بالقضية هو الدافع القوي لخوض هذه المعركة الفاصلة مع الرجعية".

وبين الليل والمدافع والإنارة والجثث الهامدة والطلقات المفرقعة جاءت قذيفة طائشة لتخبر رفيقتنا المناضلة فأبت أسرتها إلا أن تشارك أمها في التضحية والفداء، وفجر الحزام الناسف حول وسطها وبين أولادها وزوجها في الوقت الذي وقفت على باب الملجأ لتطمئن على أحوالهم جميعاً وتمدهم بالتموين وتعود إلينا فكانت الشعلة المضيئة لنا جميعاً وأول امرأة تقدم بوعيها وعن قناعة تامة بهذا المستوى فيما تقدمه.

جلسنا في الكمائن وبعد انتهاء وقت المجموعة التي تنتمي إليها رفيقتنا أم فايز انتظرنا عودتها لتحل محلها في الكمين للفترة الثانية من الكمائن المتقدمة ولكن هيهات ... لم تعود أم فايز ... وارتسم على وجوهنا ووجوه الرفاق علامات استفهام وقررنا الذهاب إليها لنطمئن عنها، وهناك يا للهول الحادث؟! يا للغرابة وجدنا جسدها ووجهها الممزقين مع تمزق كل أجساد العائلة تتقاسم أشلائهم القطط والكلاب وثغرها باسم معتز بما أقدمت عليه، لن أنسى ذلك المنظر المؤلم.

كانت تتحدى الموت والقذائف مستهترة بمن كانوا يختفون خلف مئات بل آلاف الكيلومترات يتسلطوا بالمدفعية علينا مبتسمين بسمة الافتخار قائلة له "ويحك يا جبان لو لم تكن جبان لواجهتني وجه لوجه وأنت تعرف أنك جبان، جبان لأنك نسيت من تواجه وتختفي في مواجهتك لنا نحن المسحوقين من أبناء المخيمات البائسة".

كانت أم فايز تمتلك من الانضباط والالتزام والسرية والجرأة والشجاعة حد قاسي، لم تكن تتغيب لحظة واحدة عن أداء مهماتها الحزبية ولم يمنعها عملها من أن تقدم كامل حقها لطفليها فايز وفايزة وزوجها العامل المسحوق.

لم تجد ما هو أثمن من روحها فدية لقضيتها ولم تكتف بنفسها بل كل عائلتها غير مبالية ودفعت الضريبة القيمة يوم ناداها الوطن فكانت المثل الذي يقتدى به، أبت أن تجلس في البيت على أن تكون مع رفاقها وثابرت على نفسها وناضلت بشراسة المظلوم والفاقد للحرية ورفضت أن تعيش خانعة مستسلمة تعاني تخلف المرأة وقنوطها، آمنت بقضيتها ووفت لها وعاهدت الأرض للعودة وكانت المعاهدة صادقة، وقعت يوم بدت الطريق ونفذت يوم سالت دمائها الزكية لتمحي الكلام مترجمته أعمالاً وممارسة ونفذت يوم زغرد الرصاص، هذا اليوم وتكلم صباحاً ... وانطلقت شظايا القنابل تمزق أشلاء المعتدين مساءً، ونحن واقفون فوق صخرة نراقب آليات العدو وهي تتخبط كمن أصابه مس من الشيطان ... دقائق وينطلق الثوار وتتكلم رشاشاتهم.

سجلت لا لمجرد التسجيل ... سجلت كي يمر رفاقها ويشيرون إلى حيث ترقد من سجلت بدمائها ما لم يسجله القلم فكانت تعرف طريقها الذي لا حياد عنه ولا هوادة فيه فكانت تعرف دروب الحياة ومسالكها السوية وتقضي في وسطها كالطود قوية صامدة متحدية، تبدد الظلام، تجيب من يناديها بلا تردد متقدمة الصفوف معلنة رفضها، رافعة صوتها، مظهرة سخطها علةى التخاذل على الوعود على كل ما هو مضر بقضيتها وشعبها، كانت في المقدمة في الطليعة ... شعب لوحدها، أمة في نفسها ... في أعمالها ... في تضحياتها، كانت الحقيقة فلم تهرب منها ولم تجزع ولم تتخاذل وتخذل روحها ودمها، هي طاقة انطلقت، هي صرخة ظهرت وعرفت كيف تتجه وإلى أين تتجه ... نامت مستريحة على أمل وعهد مع المرأة بأن تترك جانب الكسل والفوضى والجبن بعد اليوم مناجية أياديها لتشق طريقها ولتثق بنفسها وبقدرتها على العمل على الخلق على الإبداع في كل مجال يزوده عقلها وقلمها وعملها.

صرخت للثورة على التقاليد البالية ... على شخصيتها القديمة الهادئة المستسلمة، وثارت على كل ما هو بال، على كل ما هو رخيص، على كل ما يعرقل تقدمها ونجاحها وفلاحها.

على الجهل ... على الرجعية ... على كل ما هو مبتذل في مجتمعاتنا العربية حتى لا تحكون حياتها فارغة ... تمضي بلا هدف تضيع منها الأيام تسيرها الظروف والمناسبات ... تجرعت كأس الحنضل وهي تبتسم متحدية مجازر العملاء العمياء والتي أهدرت عشرين ألف ضحية أمثال أم فايز.

لقد ودعتنا أم فايز في الكمائن على أمل اللقاء بنا وذهبت في مهمتها حيث داهمتها قذائف المرتزقة لتفرق بيننا وبينها في طريق النضال ولكن لن ننساك يا أم الثوار يا من دفعت ضريبة النضال بدمك، ودم عائلتك غير مبالية غدر القتلة.

لم تسمعي غير صوت الجرحى والشهداء من رفاقك فأجبتهم مسرعة، سيمجدك التاريخ أيتها الفلاحة المضحية المتمردة على واقع التخلف ويا جسراً فولاذي انتصب ليمر فوقه رفاقك الثائرين.

وعهداً لك يا رفيقة السلاح على متابعة المسيرة وتحقيق الهدف الذي دفعت ثمنه دمك الزكي.

ولتبقى راية العمال عالية خفاقة

17/9/1973