الباريزة


تُولد الأحلام في درب الجرانة صغيرةً و غامضة ، و لكنها سُرعان ما تكبر و تصبح جامحة . و أنا إبن هذا الحي و ساكنه ، و فيه ...
أ م
alawrak

تُولد الأحلام في درب الجرانة صغيرةً و غامضة ، و لكنها سُرعان ما تكبر و تصبح جامحة . و أنا إبن هذا الحي و ساكنه ، و فيه كنتُ أملك حلماً و تنقصني حقيبة .
كنتُ أدعو الله في سِرِّي أن يبعث لي حقيبةً من السماء ، كي أُلَمْلِمَ داخلها ، و مِن كل بُؤسٍ عميق ، أشلاءَ هذا الحلمِ و أرتبها بِعناية ، ثم أسافر بعيداً . باريس ، براغ ، إشبيلية ، عمورية ، لا أدري . المهم هو أن أمتطي صهوةً ما و أُغادر ، و حيثما صادفتُ تلك التفاصيل الصغيرة التي ظلت تتردد في خيالي البريئ ، فَثَمَّةَ مُرادي و دافعي نحو التحليق عالياً . أبي الغارقُ في عذاباته و تضحياته ، إخوتي المُجتمعين على حُبٍّ واحدٍ ، المُنْفَضِّين إلى عَوالِمِهُم الشَّتَّى ، أصدقائي المَصْلُوبين إلى سَوَاري الإنتظارات و ليالي الشتاء الطويلة القاسية ، آهٍ لوْ أملِكُ ضِدّاً في هذا الوجع العارم ، رجاءً في صُبْحٍ وشيك ، مُجرَّد حقيبة . حقيبةٌ واحدة تكفى ، و لكني لم أجِدْ غير هذا الشيئ العجيب ، المصنوع من ورق و إسفنج ، و المُسمى ظُلماً "صاك" . قذفتْ أمي في جوفه جُلَّ ملابسي المتهالكة ، و خاصةً الشتويةَ منها ، مُسْتَبِقةً بِقلبها الدافئ شراسة الشتاء و قسوته في بلاد النصارى . إِلْتمسْتُ منها في سِرِّي دعاءً مُمْتدّاً يُرافقني . كِدْتُ أقول لها : يا أمي ، أيتها الجنَّةُ الدنيوية ، إملئي هذا "الصاك" أدعيةً لا تنتهي ، حتى أَغْرَفَ منها كُلَّما جَفَّتْ روحي و إمتلأتُ شوقاً إليك . هلْ عانقتُ أمي بعد ذلك ؟ هلْ بكيتْ ؟ لا أدري . و لكنَّ جملةً أخيرة قالتها بقيتْ عالقةً في مسمعي طوال المسافة التي ظلَّ الگوضاص يلتهمها من قلب القيسارية حتى العاصمة . قالتْ : - في الرباط سيتدبرُ لك أخوك حقيبةً لائقة .
بَرقَ في ذهني سؤالٌ ماكر : منْ قَدَّرَ لهذه العاصمة توزيع الحقائب الوفيرة ؟
إنتزَعَني من شُرُودي صوتُ الحافلة العجيبة يملأ الأرجاء أنيناً مثل إمرأةٍ ثكلى . تتعبْ ، و تُعاوِدُ إلتقاط أنفاسها ثم تواصِل . رفعتُ بصري مُتصفحاً الرفَّ في الأعلى . لا أثر لحقيبة واحدة ، و مِنْ أين يأتي هؤلاء الركاب البؤساء بثمنها؟ و لماذا عليهم أن يتوفروا على حقيبة ؟ قطعةُ قماشٍ بالية ، أو "صاك" بئيس مثل الذي لديّ يكفيان لحملِ أغراضهم و شقائهم !
قُلْتُ لِنفسي بِتَهَكُّم : لعلَّ "صاكي" الآن في الصندوق السفلي لهذا الگوضاص البطل ، مُستلقٍ على ظهره و مستمتعٌ بهذه الرحلة التي تحملُه مجاناً إلى العاصمة . هل كان النذلُ يحلُمُ بذلك ؟ اللعنةُ إنْ لمْ يُوَفِّر لي شقيقي الحقيبة الموعودة و قُدِّرَ لهذا الممسوخ مواصلة الرحلة نحو باريس؟ إحتمالٌ مُرْعب ، هربتُ منه بأنْ إستقمتُ في جلستي و أصَخْتُ السَّمْعَ لحديث البؤساء من حولي .
كَرَمُ العاصمة واضح . لا ، بلْ كرمُ أخي . حقيبةٌ جلديةٌ مُغرية . بدأتُ أتلمسها بِفرحٍ و رجاء . تمتمتُ لها كلمات متداخلة ، و كأني توسَّلْتُ منها رُفْقَةً طيبةً صادقة ، لا غَدْر فيها ولا فِراق . قلبُ المسافر مُنْبِئُه !
كَوَّمْتُ فيها أشيائي التي جلبتُ من درب الجرانة . دسَسْتُ فيها حلمي أيضاً ، و دخلتُ المطار أحملها بمشقة . لا نظير لحقيبتي الموعودة هنا . في هذا المطار الكبير أنواعٌ لا مثيل لها من الحقائب . منها من يُسحبُ على عجلتين صغيرتين ، و منها من يُعلَّقُ على الأكتاف و يُرْفعُ بِدلال . أشفقتُ على حقيبتي المسكينة ، و لكنها قابلتْ شفقتي بِجُرأةٍ جاحدة ، إذْ سُرعان ما قرَّرتْ ، في غمرة تعرفي على زملائي الجدد من الطلبة الذين سأشاركهم رحلة الحلم هذه ، أن تفتح بطنها اللعين و تقذف بِأسْمالي أمامهم غير عابئة بِوَهَني و متناسيةً وعدها لي بالرفقة الصادقة . قلتُ لهم بصوتٍ لمْ يسمعوه : أيها السادة ، هذه آثارَةٌ من درب الجرانة . و هذا الدربُ مبارك ، و أبناؤه أبطالٌ كبار ، يُقاوِمون القهر و يحلمون . و هذه الرائحةُ التي تخترقُ شمَّكُمْ الآن إنما هي رائحةُ العرق ، و الكرامة !
قفز أحدهم نحوي ، و قد إستل حزامه من سرواله بسرعة ، و قام بمساعدتي في لملمة حوائجي رابطاً الحقيبةَ بِالحزام الجلدي حتى لا تعيد فعلتها الشنيعة أمام الملأ . شكَرْتُهُ و أنا أَجُرُّ الملعونة في إتجاه الطائرة مُتَوَعِّداً أنْ أُواجه غدرها هذا بانتقامٍ شديدٍ وشيك . كنتُ أسيرُ و أنا أسُبُّها و أهددها بِحنقٍ ظاهر: سَتَريْنَ أيتها "الباريزة" الشقية سترين !
و لم يمرَّ زمنٌ طويل حتى كنتُ أتَّخِذُ قراراً شُجاعاً ، و هو أني ضحيتُ بنصف منحتي الأولى من أجل إقتناءِ حقيبةٍ أنيقة ، أَمَتُّ بها الغدَّارةَ كمَداً و غيرة . كانت رحْبةً قادرةً على إستيعابِ لوازمي ، و حُلمي .
و نِكايةً في غدْرِ حقيبة الرباط ، الباريزة اللعينة ، و إنتصاراً لدعواتِ أمي ، إلتقطتُ صورةً للذكرى بين الحقيبتين ، أو الزمنين ، الماضي و الآتي !
و لم يُعرف بعد ذلك للباريزة مصيرٌ ، أو تُسْمع عنها أنباء ..

(*) تحوير لكلمة valise